فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال الزمخشري: {على كثير ممن خلقنا} هو ما سوى الملائكة عليهم الصلاة والسلام، وحسب بني آدم {تفضيلًا} أن ترفع عليهم الملائكة وهم هم ومنزلتهم عند الله منزلتهم، والعجب من المجبرة كيف عكسوا في كل شيء وكابروا حتى جسرتهم المكابرة على العظيمة التي هي تفضيل الإنسان على الملك، ثم ذكر تشنيعًا أقذع فيه يوقف عليه من كتابه.
وقيل: {وفضلناهم على كثير} بالغلبة والاستيلاء.
وقيل: بالثواب والجزاء يوم القيامة، وعلى هذين القولين لم تتعرض الآية للتفضيل المختلف فيه بين الإنس والملائكة.
وقيل: المراد بكثير مجازه وهو إطلاقه على الجميع، والعرب تفعل ذلك وهذا القول لا ينبغي أن يقال هنا لأنك لو جعلت جميعًا كان بكثير، فقلت على جميع ممن خلقنا لكان نائيًا عن الفصاحة، ولا يليق أن يحمل كلام الله تعالى الذي هو أفصح الكلام عليه، ولأبي عبد الله الرازي كلام في تكريم ابن آدم وتفضيله مستمد من كلام الذين يسمونهم حكماء يوقف عليه في تفسيره إذ هو جار على غير طريقة العرب في كلامها.
ولما ذكر تعالى أنواعًا من كرامات الإنسان في الدنيا ذكر شيئًا من أحوال الآخرة فقال: {يوم ندعو كل إناس بإمامهم} واختلفوا في العامل في {يوم}.
فقيل: العامل فيه ما دل عليه قوله متى هو، وقيل: فتستجيبون.
وقيل: هو بدل من يوم يدعوكم وهذه أقوال في غاية الضعف، ولولا أنهم ذكروها لضربت عن ذكرها صفحًا وهو في هذه الأقوال ظرف. وقال الحوفي وابن عطية انتصب على الظرف والعامل فيه اذكر وعلى تقدير اذكر لا يكون ظرفًا بل هو مفعول.
وقال ابن عطية أيضًا بعد قوله هو ظرف: والعامل فيه أذكر أو فعل يدل عليه قوله: {ولا يظلمون}، وحكاه أبو البقاء وقدره {ولا يظلمون} يوم ندعو.
وقال ابن عطية أيضًا: ويصح أن يعمل فيه {وفضلناهم} وذلك أن فضل البشر يوم القيامة على سائر الحيوان بيِّن لأنهم المنعمون المكلفون المحاسبون الذين لهم القدر إلاّ أن هذا يرده أن الكفار يومئذ أخسر من كل حيوان، إذ يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابًا.
وقال ابن عطية أيضًا: ويصح أن يكون {يوم} منصوبًا على البناء لما أضيف إلى غير متمكن، ويكون موضعه رفعًا بالابتداء، والخبر في التقسيم الذي أتى بعد في قوله: {فمن أوتي كتابه} إلى قوله: {ومن كان} انتهى.
وقوله منصوبًا على البناء كان ينبغي أن يقول مبنيًا على الفتح، وقوله: لما أضيف إلى غير متمكن ليس بجيد لأن الذي ينقسم إلى متمكن وغير متمكن هو الاسم لا الفعل، وهذا أضيف إلى فعل مضارع ومذهب البصريين أنه إذا أضيف إلى فعل مضارع معرب لا يجوز بناؤه، وهذا الوجه الذي ذكره هو على رأي الكوفيين.
وأما قوله: والخبر في التقسيم فالتقسيم عار من رابط لهذه الجملة التقسيمية بالمبتدأ لا أن قدر محذوفًا، فقد يمكن أي ممن {أوتي كتابه} فيه {بيمينه} وهو بعد ذلك التخريج تخريج متكلف.
وقال بعض النحاة: العامل فيه {وفضلناهم} على تقدير {وفضلناهم} بالثواب، وهذا القول قريب من قول ابن عطية الذي ذكرناه عنه قبل.
وقال الزجاج: هو ظرف لقوله ثم لا تجد.
وقال الفراء: هو معمول لقوله نعيدكم مضمرة أي نعيدكم {يوم ندعو} والأقرب من هذه الأقوال أن يكون منصوبًا على المفعول به بأذكر مضمرة.
وقرأ الجمهور: {ندعو} بنون العظمة، ومجاهد يدعو بياء الغيبة أي يدعو الله، والحسن فيما ذكر أبو عمرو الداني يُدعى مبنيًا للمفعول {كل} مرفوع به، وفيما ذكر غيره يدعو بالواو وخرج على إبدال الألف واوًا على لغة من يقول: أفعو في الوقف على أفعى، وإجراء الوصل مجرى الوقف وكل مرفوع به، وعلى أن تكون الواو ضميرًا مفعولًا لم يسم فاعله، وأصله يدعون فحذفت النون كما حذفت في قوله:
أبيت أسري وتبيتي تدلكي ** وجهك بالعنبر والمسك الزكي

أي تبيتين تدلكين وكل بدل من واو الضمير.
{وأناس} اسم جمع لا واحد له من لفظه، والباء في {بإمامهم} الظاهر أنها تتعلق بندعو، أي باسم إمامهم.
وقيل: هي باء الحال أي مصحوبين {بإمامهم}.
والإمام هنا قال ابن عباس والحسن وأبو العالية والربيع كتابهم الذي فيه أعمالهم.
وقال الضحاك وابن زيد: كتابهم الذي نزل عليهم.
وقال مجاهد وقتادة: نبيهم.
قال ابن عطية: والإمام يعم هذا كله لأنه مما يؤتم به.
وقال الزمخشري: إمامهم من ائتموا به من نبيّ أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين، فيقال: يا أهل دين كذا وكتاب كذا.
وقيل: بكتاب أعمالهم يا أصحاب كتاب الخير ويا أصحاب كتاب الشر.
وفي قراءة الحسن بكتابهم ومن بدع التفسير أن الإمام جمع أُم وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم، وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الآباء رعاية حق عيسى وشرف الحسن والحسين.
وأن لا يفتضح أولاد الزنا وليت شعري أيهما أبدع أصحة لفظه أم بهاء حكمته انتهى.
وإيتاء الكتاب دليل على ما تقرر في الشريعة من الصحف التي يؤتاها المؤمن والكافر، وإيتاؤه باليمين دليل على نجاة الطائع وخلاص الفاسق من النار إن دخلها وبشارته أنه لا يخلد فيها {فأولئك} جاء جمعًا على معنى من إذ قد حمل على اللفظ أولًا فأفرد في قوله: {أوتي كتابه بيمينه} وقراءتهم كتبهم هو على سبيل التلذذ بالاطّلاع على ما تضمنتها من البشارة، وإلاَّ فقد علموا من حيث إيتاؤهم إياها باليمين أنهم من أهل السعادة ومن فرحهم بذلك يقول الباري لأهل المحشر: {هاؤم اقرؤوا كتابيه} ولم يأت هنا قسيم من {أوتي كتابه بيمينه} وهو من يؤتي كتابه بشماله، وإن كان قد أتى في غير هذه الآية بل جاء قسيمه قوله.
{ومن كان في هذه أعمى} وذلك من حيث المعنى مقابله لأن من {أوتي كتابه بيمينه} هم أهل السعادة {ومن كان في هذه أعمى} هم أهل الشقاوة {ولا يظلمون فتيلًا} أي لا ينقصون أدنى شيء وتقدم شرح الفتيل في سورة النساء.
والظاهر أن الإشارة بقوله: {في هذه} إلى الدنيا وقاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد أي: من كان في هذه الدار أعمى عن النظر في آيات الله وعبره والإيمان بأنبيائه، فهو في الآخرة أعمى إما أن يكون على حذف مضاف أي في شأن الآخرة، وإما أن يكون فهو يوم القيامة أعمى معنى أنه خبر إن لا يتوجه له صواب ولا يلوح له نجح.
وقال مجاهد: هو أعمى في الآخرة عن حججه.
وقال ابن عباس أيضًا: {ومن كان في هذه} النعم يشير إلى نعم التكريم والتفضيل فهو في الآخرة التي لم تر ولم تعاين {أعمى}.
وقيل: ومن كان في الدنيا ضالًا كافرًا فهو في الآخرة أعمى {وأضل سبيلًا} لأنه في الدنيا تقبل توبته، وفي الآخرة لا تقبل وفي الدنيا يهتدي إلى التخلص من الآفات، وفي الآخرة لا يهتدي إلى ذلك البتة.
وقيل: فهو في الآخرة أعمى عن طريق الجنة.
وقيل: أعمى البصر كما قال {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميًا} وقوله: {ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرًا} وقيل: من كان في الدنيا أعمى عن إبصار الحق والاعتبار فهو في الآخرة أعمى عن الاعتذار.
وقال ابن عطية: والظاهر عندي أن الإشارة بهذه إلى الدنيا {أي من كان} في دنياه {هذه} وقت إدراكه وفهمه {أعمى} عن النظر في آيات الله فهو في يوم القيامة أشدّ حيرة وعمى لأنه قد باشر الخيبة ورأى مخائل العذاب، وبهذا التأويل تكون معادلة التي قبلها من ذكر من يؤتى كتابه بيمينه.
وإذا جعلنا قوله: {في الآخرة} بمعنى في شأن الآخرة لم تطرد المعادلة بين الآيتين.
وقال الزمخشري: والأعمى مستعار ممن لا يدرك المبصرات لفساد حاسته لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة، أما في الدنيا فلفقد النظر، وأما في الآخرة فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه وقد جوّزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل.
ومن ثم قرأ أبو عمر الأول مما لا والثاني مفخمًا لأن أفعل التفضيل تمامه بمن فكانت ألفه في حكم الواقعة في وسط الكلام كقوله: {أعمالكم} وأما الأول فلم يتعلق به شيء فكانت ألفه واقعة في الطرف معرضة للإمالة انتهى.
وتعليله ترك إمالة أعمى الثاني أخذه الزمخشري من أبي عليّ قال أبو عليّ: لأن الإمالة إنما تحسن في الأواخر، و{أعمى} ليس كذلك لأن تقديره {أعمى} من كذا فليس يتم إلا في قولنا من كذا فهو إذن ليس بآخر، ويقوي هذا التأويل عطف {وأضل سبيلًا} لأن الإنسان في الدنيا يمكن أن يؤمن فينجو وهو في الآخرة لا يمكنه ذلك فهو {أضل سبيلًا} وأشدّ حيرة وأقرب إلى العذاب، و{أعمى} هنا من عمى القلب لا من عمى البصر لأن ذلك يقع فيه التفاضل لا هذا. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ}
قاطبةً تكريمًا شاملًا لبَرّهم وفاجرِهم أي كرمناهم بالصورة والقامةِ المعتدلةِ والتسلط على ما في الأرض والتمنُّعِ به والتمكُّنِ من الصناعات وغير ذلك مما لا يكاد يُحيط به نِطاقُ العبارة، ومن جملته ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من أن كلَّ حيوانٍ يتناول طعامَه بفيه إلا الإنسانَ فإنه يرفعه إليه بيده، وما قيل من شِرْكة القرد له في ذلك مبنيٌّ على عدم الفرقِ بين اليد والرجل فإنه متناولٌ له برجله التي يطأ بها القاذورات لا بيده {وحملناهم في البر والبحر} على الدوابّ والسفن، من حملْتَه إذا جعلتَ له ما يركبه وليس من المخلوقات شيءٌ كذلك، وقيل: حملناهم فيهما حيث لم نخسِفْ بهم الأرضَ ولم نُغرِقْهم بالماء، وأنت خبيرٌ بأن الأول هو الأنسبُ بالتكريم إذ جميعُ الحيواناتِ كذلك {وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات} أي فنون النعمِ وضُروب المستلذات مما يحصل بصنعهم وبغير صُنعِهم.
{وفضلناهم} في العلوم والإدراكاتِ بما ركّبنا فيهم من القُوى المدرِكةِ التي بها يتميز الحقُّ من الباطل والحسَنُ من القبيح {على كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا} وهم من عدا الملائكةِ عليهم الصلاة والسلام {تَفْضِيلًا} عظيمًا فحق عليهم أن يشكروا هذه النعمَ ولا يكفروها ويستعملوا قُواهم في تحصيل العقائدِ الحقّةِ ويرفضوا ما هم عليه من الشرك الذي لا يقبله أحدٌ ممن له أدنى تمييزٍ فضلًا عمن فضل على من عدا الملأ الأعلى الذين هم العقولُ المحضةُ، وإنما استُثنيَ جنسُ الملائكة من هذا التفضيلِ لأن علومَهم دائمةٌ عاريةٌ عن الخطأ والخلل، وليس فيه دَلالةٌ على أفضليتهم بالمعنى المتنازَعِ فيه فإن المراد هنا بيانُ التفضيل في أمر مشتركٍ بين جميع أفرادِ البشر صالحِها وطالحِها ولا يمكن أن يكون ذلك هو الفضلَ في عِظم الدرجةِ وزيادةِ القُربةِ عند الله سبحانه. إن قيل: أيُّ حاجةٍ إلى تعيين ما فيه التفضيلُ بعد بيانِ ما هو المرادُ بالمفضّلين فإن استثناءَ الملائكةِ عليهم الصلاة والسلام من تفضيل جميع أفرادِ البشرِ عليهم لا يستلزم استثناءَهم من تفضيل بعضِ أفرادِه عليهم قلنا: لابد من تعيينه ألبتةَ، إذ ليس من الأفراد الفاجرةِ للبشر أحدٌ يفضُل على أحد من المخلوقات فيما هو المتنازَعُ فيه أصلًا بل هم أدنى من كل دنيءٍ حسبما يُنبىء عنه قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} وقولُه تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ} {يَوْمَ نَدْعُواْ} نُصب على المفعولية بإضمار اذكر أو ظرفٌ لما دل عليه قولُه تعالى: {وَلاَ يُظْلَمُونَ} وقرئ بالياء على البناء للفاعل والمفعول ويدعو بقلب الألف واوًا على لغة من يقول في أفعى أفعو، وقد جوّز كونُ الواو علامةَ الجمعِ كما في قوله تعالى: {وَأَسَرُّواْ النجوى} أو ضميرَه وكلَّ بدلًا منه، والنونُ محذوفةٌ لقلة المبالاةِ بها فإنها ليست إلا علامةَ الرفع وقد يكتفى بتقديره كما في يدعى {كُلَّ أُنَاسٍ} من بني آدم الذين فعلنا بهم في الدنيا ما فعلنا من التكريم والتفضيلِ، وهذا شروعٌ في بيان تفاوتِ أحوالِهم في الآخرة بحسب أحوالِهم وأعمالهم في الدنيا {بإمامهم} أي بمن ائتمّوا به من نبي أو مقدّم في الدين أو كتاب أو دين وقيل: بكتاب أعمالِهم التي قدموها فيقال: يا أصحابَ كتابِ الخيرِ يا أصحابَ كتابِ الشر، أو يا أهلَ دينِ كذا يا أهلَ كتابِ كذا، وقيل: الإمامُ جمعُ أم كُخف وخِفاف، والحكمةُ في دعوتهم بأمهاتهم إجلالُ عيسى عليه السلام وتشريفُ الحسنين رضي الله عنهما والسترُ على أولاد الزنا {فَمَنْ أُوتِىَ} يومئذ من ألئك المدعوّين {كتابه} صحيفةَ أعماله {بِيَمِينِهِ} إبانةٌ لخطر الكتابِ المؤتى وتشريفًا لصاحبه وتبشيرًا له من أول الأمرِ بما في مطاويه {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مَنْ باعتبار معناه إيذانًا بأنهم حزبٌ مجتمعون على شأن جليلٍ، أو إشعارًا بأن قراءتَهم لكتبهم تكون على وجه الاجتماعِ لا على وجه الانفرادِ كما في حال الإيتاءِ، وما فيه من الدِلالة على البعد للإشعار برفعة درجاتِهم أي أولئك المختصون بتلك الكرامةِ التي يُشعِر بها الإيتاءُ المزبور {يَقْرَءونَ كتابهم} الذي أوتوه على الوجه المبين تبجّحًا بما سُطّر فيه من الحسنات المستتبِعةِ لفنون الكراماتِ {وَلاَ يُظْلَمُونَ} أي لا يُنقصون من أجور أعمالِهم المرتسمةِ في كتبهم بل يؤتَوْنها مضاعَفةً {فَتِيلًا} أي قدْرَ فتيلٍ وهو القِشرةُ التي في شق النواة أو أدنى شيءٍ فإن الفتيلَ مثلٌ في القِلة والحقارة.
{وَمَن كَانَ} من المدعوّين المذكورين {فِى هذه} الدنيا التي فُعل بهم فيها ما فعل من فنون التكريمِ والتفضيل {أعمى} فاقدَ البصيرة لا يهتدي إلى رُشده ولا يعرِف ما أوليناه من نعمة التكْرِمةِ والتفضيلِ فضلًا عن شكرها والقيامِ بحقوقها، ولا يستعمل ما أودعناه فيه من العقول والقُوى فيما خُلِقْن له من العلوم والمعارِف الحَقّة {فَهُوَ في الأخرة} التي عُبّر عنها بيومَ ندعو {أعمى} كذلك أي لا يهتدي إلى ما ينجيّه ولا يظفَر بما يُجديه لأن العمَى الأولَ موجبٌ للثاني، وقد جُوّز كونُ الثاني بمعنى التفضيل على أن عماه في الدنيا، ولذلك قرأ أبو عمرو الأولَ مُمالًا والثاني مفخمًا {وَأَضَلُّ سَبِيلًا} أي من الأعمى لزوال الاستعدادِ المُمْكنِ وتعطلِ الآلاتِ بالكلية، وهذا بعينه هو الذي أوتي كتابَه بشماله بدِلالة حال ما سبق من الفريق القابلِ له، ولعل العدولَ عن ذكره بذلك العنوانِ مع أنه الذي يستدعيه حسنُ المقابلة حسبما هو الواقعُ في سورة الحاقة وسورةِ الانشقاق للإيذان بالعلة الموجبةِ له كما في قوله تعالى: {وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضالين} بعد قوله تعالى: {فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ اليمين} وللرمز إلى علة حالِ الفريقِ الأول، وقد ذكر في أحد الجانبين المسبّبُ وفي الآخر السببُ، ودل بالمذكور في كل منهما على المتروك في الآخر تعويلًا على شهادة العقلِ كما في قوله عز وعلا: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ}. اهـ.